• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأمان المالي والثقافة الاستهلاكية

الأمان المالي والثقافة الاستهلاكية

خلاف فئة قليلة تنتقل من الفقر إلى الغنى - قفزاً أو تدريجياً - وفئة أخرى تتقهقر إلى طبقة أدنى بفعل الحروب والكوارث، يبقى معظمنا في الطبقة الاقتصادية نفسها، والسبب - وفقاً لدراسات - معوقات يكمن بعضها في علاقتنا المعقدة بالمال، وفي أفكارنا التي تشكل لبنات تقوم عليها قراراتنا المالية، أو ما أسماه هيو ماسي الـ DNA المالي، لا سيما أن جودة الحياة تأتي من مجموعة خياراتنا من بينها الخيارات المالية.

 تضرب جذور بعض تلك المعوقات في أعماقنا الثقافية والاجتماعية، وفي صدى حكايات تسكن عقولنا وقلوبنا، ومفاهيم اكتسبناها ممن حولنا، جعلت البعض منا يربط بين بساطة العيش بسبب محدودية الموارد من جهة، والطيبة ودفء العلاقات والتعاون من جهة أخرى، بينما يعتبر الثراء مرادفاً لطغيان المادية والأنانية والتفكك الأسري. فللمال وقع وقدرة على إطلاق طاقات تدفعنا نحو سلوكيات معينة - إيجابية أو سلبية - منها ما يعترض سبيل خططنا المالية، ويفسد قرارتنا، ويحجب عنا رؤية حاجاتنا المالية الحقيقية. أما نجاحنا في تجاوز تلك المعوقات فيكمن في فهمنا العميق والموضوعي لأحوالنا، التي تتضمن من نكون، والبيئات التي عشنا ونعيش فيها، وقيمنا، وخبراتنا، والتعليم الذي شكلنا؛ وذلك لمزيد من الوعي والقدرة على فك شفرات شخصياتنا المالية.

 

الهروب من الفرص  

يفوت مَن تربوا في بيوت تعتقد أن المال شر ومطاردة الثراء طمع لا يجلب خيراً، كثيراً من الفرص الثمينة، ويرفضون - بوعي أو من دون وعي - الانتقال إلى طبقات اقتصادية أعلى، والسبب أنّهم يخشون الإصابة بأمراض الجشع والبخل وعدم التعاطف مع الآخرين، مثل نماذج غيرها المال، عرفوها أو سمعوا عنها، فيفضلون البقاء كما هم بعيداً عن مواجهة ضغوط جديدة أو رفض وانتقاد من أقرانهم، وأفراد الطبقة الجديدة. فهل يمكن أن يخلق المال سيناريو «خاسر- خاسر»، فإذا لم يمتلك مشكلة، وإذا امتلك مشكلة أخرى؟ وهل توجد وسيلة للانتقال السلس إلى مستقبل أفضل؟

وفقاً للاقتصادية السلوكية د. سارة نيوكومب - في كتابها Loaded – فسر الباحثون بعض الجوانب السلبية للحصول على المال والتفكير فيه، وأثر ذلك على الأداء الفكري والشعور بالتمكن والتعامل مع الناس؛ ففي إحدى الدراسات، مثلاً، أعطي بعض لاعبي مونوبولي - لعبة الاحتكار- مالاً أكثر من اللاعبين الآخرين، فشعروا بالقوة واستطاعوا تعظيم مكاسبهم.

وعند سؤالهم عن أسباب تفوقهم قالوا إنّها مهاراتهم وقراراتهم، على الرغم من معرفتهم بأن تميزهم بسبب تفضيلهم غير العادل على غيرهم، مما أثبت أن العقل يتوافق مع التمييز كأنّه غير موجود. وهكذا يكون الإنسان على وعي بالجهد الذي يبذل، وليس بالميزات التي ساعدته. ففي وضع التمييز لا شيء يعوقنا، ونشعر بأن جهدنا هو ما يقود للنجاح. وهكذا يكون التميز رائعاً، لكن المشكلة أن نعتقد أن جميع الناس في الوضع نفسه؛ وننظر إلى من هم أقل منا، ونقول لهم: «افعلوا كما فعلنا»؛ متناسين ما استفدنا منه من ميزات المال، والفرص، والمواهب والتعليم الجيد، والعلاقات الاجتماعية المفيدة، ونمضي في الحكم على الناس واتهامهم بقصور الكفاءة، ولا نتفهمهم.

 

قصور التعاطف

عن قصور تعاطف بعض الأغنياء وعزوفهم عن المساعدة، فتؤكد د. نيوكومب أن ذلك لا يعد بخلًا بالضرورة، بل يكمن وراءه التفكير في المال، الذي يجعلهم أقوى في المهمات المثيرة للتحدي، ويفضلون العمل وحدهم، فالمال محفز لحالة التركيز المستقل، الذي يساعد بدوره على الإنجاز، ولإثبات ذلك قسمت مجموعات بصورة عشوائية في إحدى التجارب، وأسندت إلى كلّ شخص فيها مهمة تكوين مقاطع من كلمات، حيث أعطي لكل مشارك ثلاثون مجموعة مكونة من خمس كلمات، والمطلوب استخدام أربع منها لتأليف مقطع. وكانت المهمة سهلة، غير أن أحداً من المشاركين لم يعرف مقصد الباحثين في حثهم على التفكير بالمال من خلال كلمات مثل أجر، ودفع، ومرتفع. بينما لم تكن لكلمات المجموعة الأخرى علاقة بالمال. وبالانتقال إلى مهمة أخرى مثيرة للتحدي - لكن قابلة للحل- استغرقت مجموعة المال وقتًا أطول قبل طلب المساعدة، مما دل على ميل للاستقلالية، والرغبة في الإنجاز عند التفكير في المال، وتكررت التجربة وجاءت النتائج متسقة. وفي بولندا أجريت دراسة أخرى على كيفية التفاعل مع المال وأثره على سلوك الأطفال، حيث قسم الأطفال إلى مجموعتين، منح أطفال المجموعة الأولى أزراراً مختلفة الأحجام والأشكال والألوان ليلعبوا بها لمدة دقيقتين؛ بينما لعبت المجموعة الثانية بقطع نقدية. ومع انتهاء المهمة راح كل طفل لغرفة اختبار أخرى، وطلب منه أن يجد طريقه في متاهة باستخدام قلم رصاص، مع إمكانية التوقف لطلب المساعدة. ووجد الباحثون - كما توقعوا - أن أطفال النقود أنجزوا المهمة بصورة أفضل من الآخرين ولم يطلبوا المساعدة.

وعلى أية حال، ليس التفكير في المال هو الجانب السلبي الذي يجعلنا نرغب في أن نكون مستقلين، لكن في تجنب اعتماد الآخرين علينا؛ فعقلية من يفكر في المال قائمة على الإنجاز، والإنجاز لا يحب المقاطعة أو التوقف لمساعدة الآخرين.  وبتفهم ما يمكن أن يحدث عند التفكير في المال وامتلاكه، ومع وجود قيم وأخلاقيات ومعتقدات تعيدنا إلى قواعدنا الإنسانية. وخبراء يقدمون الدعم، يمكن لكثير من هذه المخاوف أن تتلاشى،  فمن النصائح المفيدة لمن يخشى أن يغيره المال: ممارسة بعض الأنشطة، كالقراءة والكتابة عن قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية؛ والتواجد في الطبيعة، واستشعار الرهبة أمام الكون وخالقه، لما لذلك من قدرة على تحفيز الشعور بضآلة الذات، وتعزيز السلوك الأخلاقي. هذا إلى جانب مران التعاطف والطيبة والسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، لاسيما مع تأكيد عديد من الدراسات على إمكانية رفع مستوى التعاطف بصورة مقصودة، وبشكل يزيد من الأثر الإيجابي للمال ويقوي الترابط الاجتماعي.

 

استراتيجيات التحول

تكشف د. نيوكومب - في الكتاب نفسه - عن ثلاث استراتيجيات يستخدمها معظم الناس للتأقلم مع الوضع الاقتصادي الجديد: الأولى استراتيجية التجنب، وإخفاء الثروة التي يفضلها من يحملون مخاوف فقدان أجزاء مهمة من ذواتهم وتراثهم بسبب الثراء؛ كالمهاجرين الذين يتمسكون بعاداتهم القديمة ويفضلون البقاء في طبقتهم المتوسطة. ويعد التجنب عموماً نموذج قلق، حيث كثيرًا ما يسأل المتجنب نفسه «ماذا لو؟» مثل ماذا لو أنفقت المال؟ وماذا لو أصبحت هدفًا لطمع الآخرين؟ ومن المحتمل أن يعرض أولاده إلى صدمة إذا امتلكوا الثروة من دون أن يتعلموا كيفية التعامل معها.  أو عيش شعور الخداع، خصوصاً إذا سبق أن اتخذوا قرارات بناء على موارد محدودة، بينما كان بإمكانهم الحصول على ما هو أفضل.

والثانية: استراتيجية المحاكاة أو التقليد، حيث يحاول البعض التشبه والتأقلم مع المجتمع الجديد في أسرع وقت، بتقليد ممارساته وتبني قيمه، وغالبا ما يتم الانفصال عن الماضي وربما إخفاؤه عن الآخرين. ومثلما يخفي المتجنب ثروته لعدم شعوره بالأمان، يستعرض المحاكي قدراته الجديدة ويعلن شعوره البهيج بالحرية والأمان ويمضي في إنفاقه بلا حساب.

وبين موقفي استراتيجيتي التجنب والمحاكاة المتطرفين، توجد استراتيجية الدمج وهي الأفضل؛ حيث تتضمن المحافظة على قيم ومهارات الطبقة المتوسطة المفيدة والقيمة مع الانفتاح على تعلم الجديد من العيش بصورة متفردة، وغالباً ما يتحدث هؤلاء مع أولادهم حول الثروة بانفتاح ويشركونهم في القرارات المالية،  كما يرغبون في تعلم المهارات المالية الضرورية لإدارة ثرواتهم، ويشعرون بالسلام بين الطبقة التي تركوها وطبقتهم الجديدة. ويعلمون الجيل التالي كيف يستمتع بالثروة ويحافظ على قيم الطبقة المتوسطة في الوقت نفسه.

هذا، وتوجد عديد من المواقع الإلكترونية المتخصصة في تقديم نصائح للخروج من دوائر العوز بسلام، وتجسير الفجوة بين أحوال الماضي والحاضر والمستقبل؛ كموقع معهد أموال مفاجئة - Sudden  Money Institute - الذي أسسته سوزان برادلي قبل عقدين باعتباره مجتمعًا من المخططين الماليين.

 

مشكلات سلوكية

يرى المخططون الماليون أن نجاح التخطيط المالي يعتمد بنسبة تفوق التسعين في المئة، على التمكن من إدارة السلوك، والتحكم في العواطف حتى لا تفسد الخطط، بينما لا تشكل تكتيكات الاستثمار سوى نسبة بسيطة. ولهذا، يفشل الكثيرون في تحقيق الأمان المالي، رغم اقتناعهم ورغبتهم في ذلك، بسبب سلوكيات وعادات سلبية شائعة في مجتمعات الثقافة الاستهلاكية التي تشجع التسوق والشراء باعتباره وسيلة للترفيه، وتمضية الوقت، وليس لحاجة فعلية، بينما يمكن توفير قدر كبير من النقود المهدرة بمجرد قصر الشراء على ما هو ضروري.

يمكن للتسوق أن يأخذ معنى آخر عندما نفهم آليات دمج أدمغتنا الأشياء المادية في شعورنا بالهوية؛ حيث لا فرق لديها بين «أنا» و«ما أملك». أي إن عقولنا تدمج الأشياء التي نمتلكها في شعورنا بالذات، لتصبح كينونتنا مجموع أجسادنا وعقولنا وشخصيتنا، وعلاقاتنا، وممتلكاتنا. ولهذا يحسن التسوق شعورنا المعتل في الأيام السيئة، حين نشعر بالضآلة ونحتاج إلى تعويض يكمل هويتنا المثالية. وربما يفتح هذا التفسير أبوابًا جديدة لفهم علاقتنا بالمال والأشياء التي نمتلكها، وتفهم سر حب التسوق في حالات الانفصال والرفض والفقدان، فالبيت والسيارة والملابس والأجهزة التي تعكس من تكون، هي ما ننفق عليه المال ونفقد بذلك شعورنا بالأمان المالي.

 التسوق بالنسبة للبعض استراتيجية لمقابلة حاجات عميقة، وطريقة للتغلب على الملل، وعقد صفقات مثيرة للتحدي، وفعل احتفالي لترميم الأنا، واستجابة قسرية لتجنب حكم الآخرين، ووسيلة لاستعادة أنفسنا وتعويض المفقود، غير أن أثر التكلفة علينا يبقى بصورة دائمة، بينما تتلاشى المكاسب العاطفية المؤقتة بسرعة.  ولهذا ينصح بالتخلص من التسوق الانفعالي، وتجنبه في حالات الشعور بعدم الأمان أو الجرح. والبحث عن بدائل كإنفاق وقت مع صديق، أو الكتابة، أو اللعب، أو الطبخ، أو ممارسة الرياضة، أو عمل أي شيء حتى استعادة الذات. كما يفيد التأمل والحديث عن القيم في تقوية التحكم بالذات. ومن المهم أن نسأل أنفسنا دائماً: لماذا نريد هذا الشيء فوراً؟ ولا نفكر في المستقبل والادخار من أجله؟

ارسال التعليق

Top